الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
هو القاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي تغمده الله برحمته وجميع المسلمين. . . قضاة الحنابلة فالذي ولاه الملك الظاهر بيبرس هو قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمدًا ابن العماد إبراهيم الجماعيلي الحنبلي إلى أن امتحن وصرف في ثاني شعبان سنة سبعين وستمائة ولم يل بعد عزله بالقاهرة أحد من الحنابلة حتى توفي شمس الدين المذكور في يوم الخميس في العشر الأول من المحرم سنة ست وسبعين. ثم ولي قاضي القضاة عز الدين عمر بن عبد الله بن عوض في النصف من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين فاستمر حتى مات سنة ست وتسعين وستمائة. ثم تولى بعده قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد عبد الغني بن يحيى الحراني إلى أن مات في رابع عشرين شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعمائة. ثم تولى بعده قاضي القضاة سعد الدين مسعود بن أحمد الحارثي في ثالث شهر ربيع الآخر من السنة وعزل بعد سنتين ونصف بقاضي القضاة تقي الدين ابن قاضي القضاة عز الدين عمر في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة بعدما شغر منصب القضاة ثلاثة أشهر فلم تطل أيامه وعزل بقاضي القضاة موفق الدين عبد الله بن محمد بن عبد الملك المقدسي في نصف جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة فدام في المنصب إلى أن مات في المحرم سنة تسع وستين وسبعمائة. ثم تولى عوضه قاضي القضاة ناصر الدين نصر الله بن أحمد بن محمد العسقلاني حتى مات في ليلة الحادي والعشرين من شهر شعبان سنة خمس وتسعين وسبعمائة. ثم تولى بعده ابنه قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم ابن نصر الله حتى مات في ثامن شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة. ثم تولى عوضه أخوه قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن نصر الله فدام حتى صرف بقاضي القضاة نور الدين علي بن خليل بن علي بن أحمد بن عبد الله الحكري فلم تطل مدة الحكري وصرف. ثم أعيد موفق الدين فاستمر إلى أن مات في سنة ثلاث وثمانمائة. ثم تولى بعده قاضي القضاة مجد الدين سالم بن أحمد في ثالث عشرين شهر رمضان من سنة ثلاث فاستمر في القضاء إلى أن صرف بقاضي القضاة علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر بن مغلي في حدود سنة ست عشرة وثمانمائة فاستمر علاء الدين بن فغلي في القضاء إلى أن توفي بالقاهرة في العشرين من صفر سنة ثمان وعشرين وثمانمائة. ثم تولى بعده قاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي من التاريخ المذكور إلى أن صرفه الملك الأشرف بقاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن علي البغدادي في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين فدام القاضي عز الدين إلى أن صرف في يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر سنة ثلاثين وثمانمائة. ثم أعيد قاضي القضاة محب الدين واستمر إلى أن مات في يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثمانمائة. ثم تولى بعده قاضي القضاة بدر الدين محمد بن محمد بن عبد المنعم البغدادي إلى أن مات في ليلة الخميس سابع جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمائة. ثم تولى بعده قاضي القضاة عز الدين أحمد بن إبراهيم بن نصر الله العسقلاني في يوم السبت تاسع جمادى الأولى المذكور. قلت: وقد خرجنا عن المقصود في ترجمة الملك الظاهر بيبرس بالإطالة فيما ذكرناه غير أن ذلك كله هو أيضا مما يضاف إلى ترجمته ولا بأس بالإطالة مع تحصيل الفائدة ولنعد إلى ذكر السلطان الملك الظاهر بيبرس. ثم أمر الملك الظاهر بأن يعمل بدمشق أيضًا كذلك في سنة أربع وستين فوقع ذلك وولى بها قضاة أربعة. ولما وقع ولايته القضاء من كل مذهب بدمشق اتفق أنه كان لقب ثلاثة قضاة منهم شمس الدين وهم: قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان الشافعي وقاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطا الأذرعي الحنفي وقاضي القضاة شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر الحنبلي فقال بعض الشعراء رحمه الله في هذا المعنى: المجتث أهل الشام استرابوا من كثرة الحكام إذ هم جميعا شموس وحالهم في ظلام وقال غيره: مجزوء الرمل بدمشق آية قد ظهرت للناس عاما كلما ولي شمس قاضيا زادت ظلاما ثم سافر الملك الظاهر من مصر إلى البلاد الشامية في هذه السنة - أعني سنة أربع وستين - فخرج منها في يوم السبت مستهل شعبان وجعل نائبه بديار مصر ولده الملك السعيد وجعل الجيش في خدمته والوزير بهاء الدين بن حنا وسار الملك الظاهر حتى نزل عين جالوت وبعث عسكرا مقدمه الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي ثم عسكرًا آخر مقدمه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي للإغارة على بلاد الساحل فأغاروا على عكا وصور وطرابلس وحصن الأكراد وسبوا وغنموا ما لا يحصى. ثم نزل الملك الظاهر بنفسه على صفد في ثامن شهر رمضان ونصب عليها المجانيق ودام الاهتمام بعمل الآلات الحربية إلى مستهل شوال إذ شرع في الزحف والحصار وأخذ النقوب من جميع الجهات إلى أن ملكها بكرة يوم الثلاثاء خامس عشر شوال واستمر الزحف والقتال ونصب السلالم على القلعة وتسلطت عليها النقوب والسلطان يباشر ذلك بنفسه حتى طلب أهل القلعة الأمان على أنفسهم وطلبوا اليمين على ذلك فأجلس السلطان الملك الظاهر الأمير كرمون أغا التتاري في دست السلطنة وحضرت رسلهم فاستحلفوه فحلف لهم كرمون التتاري وهم يظنونه الملك الظاهر فإنه كان يشبه الملك الظاهر. وكان في قلب الملك الظاهر منهم حزازة ثم شرط عليهم ألا يأخذوا معهم من أموالهم شيئا. فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شوال طلعت السناجق على قلعة صفد ووقف الملك الظاهر بنفسه على بابها وأخرج من كان فيها من الخيالة والرجالة والفلاحين ودخل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار وتسلمها واطلع على أنهم أخذوا شيئًا كثيرًا من التحف له قيمة فأمر الملك الظاهر بضرب رقابهم فضربت على ذل هناك. وكتبت البشائر بهذا النصر إلى مصر والأقطار وزينت الديار المصرية لذلك ثم أمر الملك الظاهر بعمارة قلعة صفد وتحصينها ونقل الذخائر إليها والأسلحة وأزال دولة الكفر منها ولله الحمد وأقطع بلدها لمن رتبه لحفظها من الأجناد وجعل مقدمهم الأمير علاء الدين البكي وجعل في نيابة السلطنة بالمدينة الأمير عز الدين العلائي وولاية القلعة للأمير مجد الدين الطوري. ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق في تاسع عشر شوال. ولما كان الملك الظاهر نازلًا بصفد وصل إليه رسول صاحب صهيون بهدية جليلة ورسالة مضمونها الاعتذار من تأخيره عن الحضور فقبل الملك الظاهر الهدية والعذر. ثم وصلت رسل صاحب سيس أيضا بهدية فلم يقبلها ولا سمع رسالتهم. ثم وصلت البريدية من متولي قوص ببلاد الصعيد بخبر أنه استولى على جزيرة سواكن وأن صاحبها هرب وأرسل يطلب من الملك الظاهر الدخول في الطاعة وإبقاء سواكن عليه فرسم ثم رحل الملك الظاهر من دمشق يوم السبت ثالث في القعدة وأمر العساكر بالتقدم إلى بلاد سيس للإغارة عليها وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة وتدبير الأمور راجع إلى الأمير آق سنقر الفارقاني فساروا حتى وصلوا إلى الدرب الذي يدخلون منه إليها وكان صاحبها قد بنى عليها أبرجة فيها المقاتلة فلما رأوا العسكر تركوها ومضوا فأخذها المسلمون وهدموها ودخلوا بلاد سيس فنهبوا وأسروا وقتلوا وكان فيمن أسر ابن صاحب سيس وابن أخته وجماعة من أكابرهم. ودخلوا المدينة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة وأخذوا منها ما لا يحصى كثرة وعادوا نحو دمشق. فلما قاربوها خرج الملك الظاهر لتلقيهم في ثاني ذي الحجة واجتاز بقارة في سادسه فأمر بنهبها وقتل من فيها من الفرنج فإنهم كانوا يخيفون السبيل ويستأسرون المسلمين فأراح الله منهم وجعلت كنيستها جامعًا ورتب بقارة خطيبًا وقاضيًا ونقل إليها الرعية من المسلمين ثم التقى العساكر وخلع عليهم وعاد معهم فدخل دمشق والغنائم والأسرى بين يديه في يوم الاثنين خامس عشر شهر ذي الحجة فأقام بها مدة. ثم خرج منها طالبا الكرك في مستهل المحرم سنة خمس وستين وستمائة وأمر الملك الظاهر بعد خروجه من دمشق بعمارة جسر بالغور على نهر الشريعة وكان المتولي لعمارته جمال الدين محمد بن نهار وبدر الدين محمد بن رحال وهما من أعيان الأمراء ولما تكامل عمارته اضطرب بعض أركانه فقلق الملك الظاهر لذلك وأعاد الناس لإصلاحه فتعذر ذلك لزيادة الماء فاتفق وقوف الماء عن جريانه حتى أمكن إصلاحه فلما تم إصلاحه عاد الماء إلى حاله قيل إنه كان وقع في النهر قطعة كبيرة مما يجاوره من الأماكن العالية فسدته من غير قصد. وهذا من عجيب الاتفاق. ثم عاد الملك الظاهر إلى ديار مصر وعند عوده إليها وصل إليه رسل صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر ومعهم فيل وحمار وحش أبيض وأسود وخيول وصيني وتحف وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط له أن يخطب له ببلاده. ثم خرج السلطان في يوم السبت في ثاني جمادى الآخرة إلى بركة الجب عازمًا على قصد الشام على حين غفلة وجعل نائب السلطنة على مصر الأمير بيليك الخازندار ورحل في سابع الشهر فوردت عليه رسل صاحب يافا في الطريق فاعتقلهم وأمر العسكر بلبس آلة الحرب ليلا وسار فأصبح يافا وأحاط بها من كل جانب فهرب من كان فيها من الفرنج إلى قلعتها فملك السلطان المدينة وطلب أهل القلعة الأمان فأمنهم وعوضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم فركبوا في المراكب إلى عكا وكان أخذ قلعة يافا في الثاني والعشرين من الشهر المذكور وأمر بهدمها. فلما فرغ السلطان من هدمها رحل عنها يوم الأربعاء ثاني عشر شهر رجب طالبا للشقيف فنزل عليه يوم الثلاثاء وحاصرها حتى تسلمها يوم الأحد تاسع عشرين رجب وكان الملك الظاهر أيضا ملك الباشورة بالسيف في السادس والعشرين منه. ثم رحل الملك الظاهر عنها بعد أن رتب بها عسكرًا في عاشر شعبان وبعث أكثر أثقاله إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشن عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغور أنهارها. ثم رحل إلى حصن الأكراد ونزل بالمرج الذي تحته فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة فردها عليه وطلب منهم دية رجل من أجناده كانوا قتلوه مائة ألف دينار فأرضوه. فرحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى أفامية ثم سار ونزل منزلة أخرى. ثم رحل ليلا وأمر العسكر بلبس آلة الحرب ونزل أنطاكية في غرة شهر رمضان فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطا لم يجب إليها وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر ورتب على أبوابها جماعة من الأمراء لئلا يخرج أحد من الحرافشة بشيء من النهب ومن يوجد معه شيء يؤخذ منه فجمع من ذلك ما أمكن جمعه وفرقه على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم. وحصر من قتل بأنطاكية فكانوا فوق الأربعين ألفًا وأطلق جماعة من المسلمين. كانوا فيها أسراء من الحلبيين وكتب البشائر بذلك إلى مصر وإلى سائر الأقطار. وأنطاكية: ملينة عظيمة مشهورة مسافة سورها اثنا عشر ميلًا وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجا وعدد شرفاتها أربع وعشرون ألفًا. ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله - فيما فتح. قلت: كم ترك الأول للآخر. ولما ملك الملك الظاهر أنطاكية وصل إليه قصاد من أهل القصير يطلبون تسليمها إليه فسير السلطان الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالعساكر إليها فوصلها ووجد أكثر أهلها قد برح منها فتسلمها في ثالث عشر شهر رمضان وكان قد تسلم دركوش بواسطة فخر الدين الجناحي في تاسع شهر رمضان وعاد إلى دمشق فدخلها في سابع عشرين شهر رمضان وعيد السلطان بقلعة دمشق. ثم عاد إلى القاهرة فدخلها آخر نهار الأربعاء حادي عشر في الحجة. وبعد وصوله بمدة جلس في الإيوان بقلعة الجبل يوم الخميس تاسع صفر وأحضر القضاة والشهود والأعيان وأمر بتحليف الأمراء ومقدمي الحلقة لولده الملك السعيد بركة خان فحلفوا ثم ركب الملك السعيد يوم الاثنين العشرين من الشهر بأبهة السلطنة في القلعة ومشى والده أمامه وكتب تقليد له وقرئ على الناس بحضور الملك الظاهر وسائر أرباب الدولة. ثم في يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر من القاهرة متوجهًا إلى الشام ومعه الأمراء بأسرهم جرائد واستناب بالديار المصرية في خدمة ولده الأمير بدر الدين بيليك الخازندار. ومن هذا التاريخ علم الملك السعيد على التواقيع وغيرها. ولما صار الملك الظاهر بدمشق وصلت إليه كتب التتار ورسلهم والرسل: محب الدين دولة خان وسيف الدين سعيد ترجمان وآخر ومعهم جماعة من أصحاب سيس فأنزلهم السلطان بالقلعة وأحضرهم من الغد وأدوا الرسالة ومضمونها: أن الملك أبغا بن هولاكو لما خرج من الشرق ملك جميع البلاد ومن خالفه قتل وأنت - يعني للملك الظاهر لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منا فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحًا وأنت مملوك أبعت في سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض وأولاد ملوكها فأجابه في وقته بأنه في طلب جميع ما استولوا عليه من العراق والجزيرة والروم والشام وسفرهم إليه بسرعة. ثم في آخر شهر رجب خرج الملك الظاهر من دمشق ونزل خربة اللصوص فأقام بها أيامًا ثم ركب ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان ولم يشعر به أحد وتوجه إلى القاهرة على البريد بعد أن عرف الفارقاني أنه يغيب أيامًا معلومة وقرر معه أنه يحضر الأطباء كل يوم ويستوصف منهم ما يعالج به متوعك يشكو تغيير مزاجه ليوهم الناس أن الملك الظاهر هو المتوعك فكان يدخل ما يصفونه إلى الخيمة ليوهم العسكر صحة ذلك وسار الملك الظاهر حتى وصل قلعة الجبل ليلة الخميس حادي عشرين شعبان فأقام بالقاهرة أربعة أيام ثم توجه ليلة الاثنين خامس عشرين الشهر على البريد فوصل إلى المعسكر يوم تاسع عشرين الشهر. وكان غرضه بهذا السفر كشف أحوال ولده الملك السعيد وغير ذلك. ثم في يوم الأحد سادس عشر شهر رمضان تسلم نواب الملك الظاهر قلعة بلاطنس وقلعة كرابيل من عز الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكورس صاحب صهيون وعوضه غيرهما قرية تعرف بالخميلة من أعمال شيزر. ثم في يوم الخميس العشرين من شهر رمضان توجه الملك الظاهر إلى صفد فأقام بها يومين ثم شن الغارة على بلد صور وأخذ منها شيئًا كثيرًا. ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق وعيد بها. ثم خرج منها في خامس عشرين شوال يريد الكرك فوصله في أوائل ذي القعدة. ثم توجه في سادسه إلى الحجاز وصحبته بيليك الخازندار والقاضي صدر الدين سليمان الحنفي وفخر الدين إبراهيم بن لقمان وتاج الدين ابن الأثير ونحو ثلاثمائة مملوك وجماعة من أعيان الحلقة فوصل المدينة الشريفة في العشر الأخير من الشهر فأقام بها ثلاثة أيام. وكان جماز قد طرق المدينة وملكها فلما قدم الظاهر هرب فقال الملك الظاهر: لو كان جماز يستحق القتل ما قتلته. لأنه في حرم النبي صلى الله عليه وسلم ثم تصدق في المدينة بصدقات كثيرة وخرج منها متوجهًا إلى مكة فوصلها في ثامن ذي الحجة فخرج إليه أبو نمي وعمه إدريس صاحبا مكة وبذلا له الطاعة فخلع عليهما وسارا بين يديه إلى عرفات فوقف بها يوم الجمعة ثم عاد إلى منى ثم إلى مكة وطاف بها طواف الإفاضة وصعد الكعبة وغسلها بماء الورد وطيبها بيده وأقام يوم الاثنين ثم ركب وتوجه إلى المدينة الشريفة فزار بها قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. ثم توجه إلى الكرك فوصله في يوم الخميس تاسع عشرين في الحجة فصلى به الجمعة. ثم توجه إلى دمشق فوصل يوم الأحد ثاني المحرم سنة ثمان وستين وستمائة في السحر فخرج الأمير جمال الدين آقوش فصادفه في سوق الخيل واجتمع به. ثم سار إلى حلب فوصلها في سادس المحرم. ثم خرج منها في عاشره وسار إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى مصر وصحبته الأمير عز الدين الأفرم فدخلها يوم الأربعاء رابع صفر واتفق ذلك اليوم دخول ركب الحاج وكانت العادة يوم ذاك بدخول الحاج إلى القاهرة بعد عاشر صفر فأقام الملك الظاهر بالقاهرة أيامًا وخرج منها في صفر المذكور إلى الإسكندرية ومعه ولده الملك السعيد وسائر الأمراء فتصيد أيامًا وعاد إلى نحو القاهرة في يوم الثلاثاء ثامن شهر ربيع الأول وخلع في هذه السفرة على الأمراء وفرق فيهم الخيل والحوائص الذهب والسيوف المحلاة والذهب والدراهم والقماش وغير ذلك. فلم يقم بالقاهرة إلا مدة يسيرة وخرج منها متوجهًا إلى الشام في يوم الاثنين حادي عشرين شهر ربيع الأول في طائفة يسيرة من أمرائه وخواصه فوصل إلى دمشق في يوم الثلاثاء سابع شهر ربيع الآخر ولقي أصحابه في الطريق مشقة شديدة من البرد. ثم خرج عقيب ذلك إلى الساحل وأسر ملك عكا وقتل وأسر وسبى. ثم قصد الغارة على المرقب فوجد من الأمطار والثلوج ما منعه فرجع إلى حمص فأقام بها نحو عشرين يومًا. ثم خرج إلى جهة حصن الأكراد ونزل تحتها وأقام يركب كل يوم ويعود من غير قتال إلى الثامن والعشرين من شهر رجب فبلغه أن مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت مركبين للمسلمين فرحل من فوره إلى نحو الديار المصرية فوصلها ثاني عشر شعبان. فحين دخوله إلى مصر أمر بعمارة القناطر التي على بحر أبي المنجا وهي من المباني العجيبة في الحسن والإتقان وبينما هو في ذلك ورد عليه البريد من الشام أن الفرنج قاصدون الساحل والمقدم عليهم شارل أخوريدا فرنس وربما كان محطهم عكا فتقدم الملك الظاهر إلى العسكر بالتوجه إلى الشام. ثم ورد الخبر أيضًا بأن اثني عشر مركبا للفرنج عبروا على الإسكندرية ودخلوا ميناءها وأخذوا مركبًا للتجار واستأصلوا ما فيه وأحرقوه ولم يجسر والي الإسكندرية أن يخرج الشواني من الصناعة لغيبة رئيسها في مهم استدعاه الملك الظاهر بسببه. ولما بلغ الملك الظاهر ذلك بعث أمر بقتل الكلاب في الإسكندرية وألا يفتح أحد حانوتًا بعد المغرب ولا يوقد نارًا في البلد ليلًا ثم تجهز بسرعة وخرج نحو دمياط يوم الخميس خامس ذي القعدة في البحر. وفي ذي الحجة أمر السلطان بعمل جسرين: أحدهما من مصر إلى الجزيرة - أعني الروضة والآخر من الجزيرة إلى الجيزة على مراكب لتجوز العساكر عليهما. ثم عاد الملك الظاهر من دمياط بسرعة ولم يلق حربا. وخرج من مصر إلى عسقلان في يوم السبت عاشر صفر سنة تسع وستين وستمائة في جماعة يسيرة من الأمراء والأجناد فوصل إلى عسقلان وهدم من سورها ما كان أهمل هدمه في أيام الملك الصالح ووجد فيما هدم كوزان مملوءان ذهبًا مقدار ألفي دينار ففرقها على من صحبه وورد عليه الخبر وهو بعسقلان بأن عسكر ابن أخي بركة خان المغلي كسر عسكر أبغا بن هولاكو فسر الملك الظاهر بذلك سرورًا زائدًا. وعاد إلى مصر يوم السبت ثامن شهر ربيع الأول. وفي هذه السنة انتهى الجسر والقناطر الذي عمل على بحر أبي المنجا ووقف عليه الملك الظاهر وقفا يعمر منه ما دثر منه على طول السنين. وفي هذه السنة أيضًا بنى الملك الظاهر جامع المنشية وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر من سنة تسع وستين وستمائة المذكورة. ثم في السنة المذكورة أيضًا خرج الملك الظاهر من الديار المصرية متوجهًا إلى نحو حصن الأكراد في ثاني عشر جمادى الآخرة ودخل دمشق يوم الخميس ثامن شهر رجب وكان معه في هذه السفرة ولده الملك السعيد والصاحب بهاء الدين بن حنا واستخلف بمصر الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني وفي الوزارة الصاحب تاج الدين بن حنا. ثم خرج الملك الظاهر من دمشق في يوم السبت عاشره وتوجه بطائفة من العسكر إلى جهة وولده وبيليك الخازندار بطائفة أخرى إلى جهة وتواعدوا الاجتماع في يوم واحد بمكان معين ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية والمرقب وعرقة ومرقية والقليعات وصافيثا والمجدل وأنطرطوس فلما اجتمعوا على أن يشنوا الغارة فتحوا صافيثا والمجدل ثم ساروا ونزلوا حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب من سنة تسع وستين وستمائة وأخذوا في نصب المجانيق وعمل الستائر ول! ذا الحصن ثلاثة أسوار فاشتد عليه الزحف والقتال وفتحت الباشورة الأولى يوم الخميس حادي عشرين الشهر وفتحت الثانية يوم السبت سابع شعبان وفتحت الثالثة الملاصقة للقلعة في يوم الأحد خامس عشره وكان المحاصر لها الملك السعيد ابن الملك الظاهر ومعه بيليك الخازندار وبيسري ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه من الجبلية والفلاحين ثم أطلقوهم. فلما رأى أهل القلعة ذلك أذعنوا بالتسليم وطلبوا الأمان فأمنهم الملك الظاهر وتسلم القلعة يوم الاثنين ثالث عشرين شعبان وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار وأطلق الملك الظاهر من كان فيها من الفرنج فتوجهوا إلى طرابلس. ثم رحل الملك الظاهر بعد أن رتب الأمير عز الدين أيبك الأفرم لعمارته وأقيمت فيه الجمعة ورتب نائبًا وقاضيًا. ولما وقع ذلك بعث صاحب أنطرطوس إلى الملك الظاهر يطلب المهادنة وبعث إليه بمفاتيح أنطرطوس فصالحه على نصف ما يتحصل من غلال بلده وجعل عندهم نائبا من قبله. ثم صالح صاحب المرقب على المناصفة أيضا وذلك في يوم الاثنين مستهل شهر رمضان من سنة تسع وستين وقررت الهدنة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام. ثم سار الملك الظاهر في يوم الأحد رابع عشر شهر رمضان فأشرف على حصن ابن عكار وعاد إلى المرج فأقام به إلى أن سار ونزل على الحصن المذكور ثانيًا في يوم الاثنين ثاني عشرين شهر رمضان ونصب المجانيق عليه في يوم الثلاثاء. وفي يوم الأحد ثامن عشرينه رمى المنجنيق الذي قبالة الباب الشرقي رميًا كثيرًا فخسف خسفًا كبيرًا إلى جانب البدنة ودام ذلك إلى الليل فطلبوا الأمان على أنفسهم من القتل وأن يمكنهم من التوجه إلى طرابلس فأجابهم فخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر وكتبت البشائر بالفتح والنصر إلى سائر الأقطار. ثم في يوم السبت رابع شوال خيم السلطان الملك الظاهر بعساكره على طرابلس فسير صاحبها إليه يستعطفه فبعث إليه الملك الظاهر الأتابك وسيف الدين الدوادار الرومي على أن يكون له من أعمال طرابلس نصف بالسوية وأن يكون له دار وكالة فيها وأن يعطى جبلة واللاذقية بخراجهما من يوم خروجهما عن الملك الناصر إلى يوم تاريخه وأن يعطى نفقات العساكر من يوم خروجه فلما علم الرسالة عزم على القتال وحصن طرابلس فنصب الملك الظاهر المجانيق ثم ترددت الرسل ثانيًا وتقرر الصلح أن تكون عرقة وجبلة وأعمالها للبرنس صاحب طرابلس وأن يكون ساحل أنطرطوس والمرقب وبانياس وبلاد هذه النواحي بينه وبين الداوية والتي كانت خاصًا لهم وهي بارين وحمص القديمة تعود خاصًا للملك الظاهر وشرط أن تكون عرقة وأعمالها وهي ست وخمسون قرية صدقة من الملك الظاهر عليه فتوقف صاحب طرابلس وأنف فلما بلغ الملك نقص صفحة 138 - 139 الظاهر امتناعه صمّم على ما شَرَط عليه حتى أجابه وعُقِد الصلح بينهما مدّة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام. وفي يوم السبت حادى عشر شوّال رَحَل الملك الظاهر عن مَرْج صافيثا وأذِن إلى صاحب حَمَاة وصاحب حِمْص بالعَوْد إلى بلادهم وسار الظاهر حتى دخل دِمَشْق يوم الأربعاء خامس عشر شوّال وعَزَل القاضي شَمسَ الدين أحمد بن خلّكان عن قضاء دِمَشْق وكانت مدّة ولايته عشر سنين وولى عِوضَه القاضيَ عِزالدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ. ثم في يوم الجمعة رابع عشرين شوّال خرج الملك الظاهر من دِمَشْق قاصدًا القُرَيْن فنزل عليه يوم الاثنين سابع عشرين الشهر ونصَب عليه المجانيق ولم يكن به نساء ولا أطفال بل مُقاتِلة فقاتلوا قتالًا شديدًا وأخذت النُقُوب للحِصْن من كلّ جانب فطلب مَنْ فيِه الأمان فأُمَنوا يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة وتَسَلَّم السلطانُ الحِصْن بما فيه من السلاح ثمّ هدمه وكان بناؤه من الحجر الصلْد وبين كلّ حجرين عُود حديد ملزوم بالرصاص فأقاموا في هدمه اثني عشريومًا وفي حِصارِه خمسة عشريومًا. قريبة من عكَا - ولَبِس العسكر وسار إلى عَكا وأشرف عليها ثم عاد إلى منزله. ثم رحل منها يوم الثلاثاء قاصدًا مصر فدخلها يومَ الخميس ثالث عشر ذي الحجة وكان جملة ما صرَفه الملك الظاهر في هنه السفْرة من حين خروجه من مصر إلى حين عَوْده إليها ما ينيف على مائة ألف دينار وثمانين ألف دينار عَيْنًا. وفي اليوم الثاني من وصوله إلى قلعة الجبل قَبَض على جماعة من الأمراء منهم: الأمير علم الدين سَنْجَر الحلبي الكبير الذي كان تسلطن بدِمَشْق في أول سلطنة الملك الظاهر بِيبَرْس والأمير جمال الدين آقوش المحمًدي والأمير جمال الدين أَيدُغْدي الحاجبي الناصري والأمير شمس الدين سُنْقُر المسّاح والأمير سيف الدين بيدغان الركْني والأمير علم الدين سَنْجَر طرطح وغيرهم وحُبِسوا الجميع بقلعة الجبل وسبب ذلك أنه بلغه أنهم تآمروا على قبضه لمّا كان بالشَقِيف فأسرَّها في نفسه إلى وقتها. وكان بلغ الملكَ الظاهرَ وهوعلى حِصْن الأكراد أنّ صاحب قُبْرُص خرج منها في مراكبه إلى عكا فأراد السلطان اغتنام خلوّها فجهّز سبعة عشر شِينيأ فيها الرئيس ناصر الدين عمربن منصور رئيس مصر وشهاب الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام رئيس الإِسكندرية وشرف الدين علوي بن أبي المجد بن علوي العَسْقلاني رئيس دِمْياط وجمال الدين مَكَي بن حسون مقدّمأ على الجميع فوصلوا الجزيرة ليلًا فهاجت عليهم ريحٌ طردتْهم عن المَرْسَى وألقتْ بعض الشَوَاني على بعض فتحطم منها أكثر من أحد عشر شِينيًا وأخِذ مَنْ فيها من الرجال والصنّاع أسَراء وكانوا زُهَاءَ ألف وثمانمائة نفس وسلِم الرئيس ناصرالدين وابن حَسّون في الشَّوَاني السالمة وعادت إلى مراكزها فعظُم ذلك على الملك الظاهر بِيبَرْس إلى الغاية.
|